رأفت السويركي

حالة " الذُّهَان الفيروسوي" التي أصيب بها العالم راهناً؛ بفعل الضخ الإعلاموي المتعلق بــ "جائحة- كوفيد 19"؛ تجعله يدخل دائرة التوصيف النفسانوي... بأنها تُماثل "نوبات الهَلَاوس" والمتوهمات، وفقدان القدرة على التركيز لدى التعاطي مع المسألة، والتغاضي عن إدراك أبعادها السياسوية والاقتصادوية المحرِّكة؛ بما يرسخ الشعور بالاضطهاد الذي قد يمارسه "فيروس كورونا" على البشر. وبما يروجه البعض توهماً بأن "العولمة" ستنهار نتيجة التضاد الحاد بين الولايات المتحدة الأميركية والصين.

*****

إن تفكيك ذلك الخطاب والإجراءات المتخذة حول "كورونا"، يقود للتذكير بالرواية الشهيرة المسماة "الطاعون" للروائي الفرنسي "ألبير كامو"، والتي وُصِفَتْ بواقعيتها حول قصة جرت في "وهران" الجزائرية العام 1940م؛ وكان "مرض الطاعون" يحصد من ساكنيها آلاف الضحايا يومياً.

"الطاعون"... إنه أحدث توصيفات الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" للجائحة الكورونية؛ بقوله إنه: "طاعون بمعنى الكلمة"؛‎ يقول ذلك مدفوعاً بأعداد القتلي والمصابين الأميركيين به؛ ولعل ترامب في مؤتمراته الصحافوية وهو لا يرتدي "الكمامة الواقية" يحاول تأكيد أحوال دولة تبدو أنها منتكبة ب"وباء كورونا"، لذلك – وهذه من الأعاجيب - توصف حسب تقارير( CNN ) بأنها " تعد أكبر بؤر الإصابة بالمرض في العالم: بلغت نحو 400 ألف إصابة، فيما وصلت أعداد الوفيات إلى نحو 13 ألف حالة وفاة، حتى صباح 8/4/2020م".

والأسئلة العاكسة للاسترابة تجاه هذه الأوضاع كثيرة: كيف ولماذا وأين كانت أجهزة الدولة الأميركية منذ جرى الإعلان عن الوباء في الصين؟ وهل حقا كان هناك تراخ؟ وكيف؟ أم أن الوقائع "المسكوت عنها" تكشف ذلك؛ والخاصة بالتسريبات حول المسؤولية الأميركية عن إعادة هندسة الفيروس جينويا وانفلاته؛ فكانت النتيجة إغلاق مختبر "فورت ويتريك" الخاص بأبحاث الميكروبات والفيروسات" بولاية ميريلاند؟!

*****

إن انتشار "الجائحة" لاحقاً في معظم دول العالم، تستدعي إذن النظرة إلى تلك الوبائوية، لدراسة فعالية النهج العولموي في هذه المسألة. وإذا كانت الحلقات الأربع من هذه التدوينة تعرضت للجانب الاقتصادوي، والدوافع الربحوية المخيفة التي ستحققها الرأسمالوية العولموية الدوائية من تعميم اللقاحات، واختبارات الكشف عن الفيروس والوقاية منه، لأن السوق الاستهلاكوية ستكون باتساع العالم.

غير أن هناك من الجوانب المهمة ما ينبغي الإشارة إليها في قضية "عولموية الوباء"، وتوظيفها لترسيخ نهجها بنيويا بفعل تلك الفيرسة. إذ أن انتشار الوباء؛ أو نشره بهذا الاتساع الجغرافي... يلعب دوره المضمر في تعميق النهج العولموي، ويفرضه ويثبته، لكي يكون تطورا هيكلويا على صعيد النهج والبناء؛ والترتيب لتعميقه في البنية الدولية!!

*****

إن مجموعة الإجراءات البروتوكولية التي تم تعميم اتباعها في أغلبية دول العالم؛ وإن كانت تأتي في إطار الحرص والوقاية من انتشار "غزو الفيروس" للجماهير؛ فهي في حقيقتها تشير إلى بدء تطبيق بنية تحول الإجراءت من أنماط مجتمعات ما قبل العولموية إلى الاندماج في طقوسوية طور العولموية؛ بغرض مغادرة تلك الأنماط القديمة من إدارة شؤون الحياة في العالم ككل؛ وتحويلها إلى كتب التاريخ.

فــ "العولموية" هي اصطلاح دال على حالة توصيفية لنظام إدارة العالم كوحدة واحدة؛ تُشابه نواة الذرة الجامعة لمتنوعات؛ وتشغل المركز الدولة الرأسمالوية التي تمثل مكمن قوة هذا النظام (الولايات المتحدة الأميركية) برأسمالييها الأفراد الكبار؛ ويحيط بها الإلكترونات الدائرة في الحواف أي دول الأطراف؛ ومنها ما يعادل بالمناظرة في القوة بوساطة الاندماج المحسوب في (النظام / الخلية) دولة الصين المنطلقة من صيغة رأسمالوية الدولة.

*****

وفي إطار قانون الحراك البنيوي الداخلي الحاكم لطور "العولموية السسيواقتصادوية" كان ذلك التدافع الثنائي بين المتوافق والمتضاد في الحراك بين الولايات المتحدة والصين وهما النموذجان السياسويان العولمويان الرئيسان، والذي تمظهر في تعارك "دونالد ترامب" مع الدولة الصينية كرجل رأسمالوي فرداني؛ لدوافع "سسيواقتصادوية" تسعى لاسترداد القوة الاقتصادوية المتسربة من الولايات المتحدة انتقالاً بفعل العولموية إلى دولة الصين؛ والتي صارت تمثل وزنا للقوة الطرفوية الكبيرة المتحولة بإنشاء قوة مركزوية مناظرة في الأطراف لقوة المركز القديم؛ طمعاً في أن ترتد تلك القوة المتسربة مرة أخرى إلى الدولة المركزوية الأولى والآخذة في التآكل بالمقاييس النقدوية والانتاج.

ومن دون شك فإن قضية "فيروس كورونا" في حقيقتها "السسيواقتصادوية" لا تخرج عن إطار هذا التدافع/ التصارع المتعارض؛ والذي جسده الأستاذ الدكتور السيد فضل Assyed Fadl في مداخلته الكريمة مع (الحلقة الرابعة) من تدويناتي حول "فيرسة العولموية" باصطلاح دال بعمق على الحالة:" الصين ... أمريكا ضربة مزدوجة /ضربة مضادة/ أخطاء لعب الكبار ./الإعداد الصيني للعبة محكم/الإعداد الأمريكي يؤجل الحساب .انفتاح النص"!!

وتعبير "انفتاح النص" الذي ذكره الأستاذ الدكتور السيد فضل هنا... يعبر عنه ذلك الحراك التنافسوي؛ الذي يدور في إطار التغالب المنفتح الجامع للهيمنة على النظام الاقتصادوي/ السياسوي العولموي؛ بين نموذجي "دولة الرأسمالوية الفردانية/ الولايات المتحدة"؛ و"دولة رأسمالوية الدولة العميقة / الصين"؛ ويعكس نفسه في أنماط مختلفة؛ منها ما هو ناعم من دون إضرار وأيضا بإضرار؛ حيث يدفع المجتمع الطرفوي المرتبط بالضرورة في هذا النظام الجديد "فاتورة الاندماج في النظام العولموي الجامع".

ولعل "اقتصادات الأوبئة" تعبر عن شكل من حالات تطبيق تلك الهيمنة؛ في إطار تصاعد "ارتقاء النوع الاقتصادوي/ السياسوي" لنمذجة نظامه، ليكون عولمويا بحق. فالوباء يجتاح الجميع في العالم كله؛ والعلاج ينبغي أن يكون للجميع؛ والجميع ينبغي أن يدفع تكاليف البحث عنه والجميع يكون مضطرا لتحمل جزء من أعباء البحث عن العلاجات الجاري اعتمادها وانتاجها.

وفضلا عن ذلك فإن نمطوية الاستجابة للعولموية في تصاعدها ستكون جمعوية، ونظامها سيجري اتباعه من قِبَلِ الجميع؛ ولن يخرج الكلُّ عن قوانين "ترسيخ العولموية" نهجاً وسلوكاً ومشروعاً؛ وليس هدمها كما يروج البعض؛ لأن العولموية ستمضي في ترسيخ طورها بما يعيد صياغة الأرض كلها في إطار نظام الخلية الواحدة المحكومة ب"قانون الانفصال المتصل؛ والاتصال المنفصل"!!

*****

إن من شواهد تطبيق "النهج العولموي" في كل دول العالم بضغوط "الفيرسة الجائحة" الراهنة؛ هو إيقاف وتعطيل بسبب الوباء تواصل نمط آداء العمل الوظائفوي التقليدي عبر "التجمع/ المتكدس الجسداني" في أبنية العمل المغلقة(وزارات وهيئات وشركات)؛ لأنه يوفر الفرصة لانتشار الفيروس بالتقارب؛ ويعطل إمكانية تنفيذ مشروع العولمة بأن الأرض كلها هي ساحة للعمل؛ وينبغي ترسيخ نمط الجزر المنفصلة المتصلة بالشبكات.

لذلك بفرصة "الفيرسة" بدأ فعليا تطبيق نمط "التباعد الاجتماعوي" الذي طالبت به "لجنة الطوارئ في منظمة الصحة العالمية"؛ أي أن نكون جزرا منفصلة؛ والانصهار في "بيئة العمل الافتراضوي عبر الشبكات"، ليهيمن على المجتمع العولموي نمط إنجاز الإعمال بطريقة الانفصال المتصل؛ وهو النهج العولموي الجديد الذي طال التأخر في تطبيقه.

وهكذا تتغير أنظمة الآداء العمليانية بالإجبار والضرورة والافتعال عبر "الجائحة الفيروسوية" إلى "الأنظمة الشبكاتية" التي تجمع المنفصلين جغرافويا في فضاء اتصالوي محكم عبر الانترنيت والشاشات؛ وعبر مؤتمرات الفيديو تجري المشاورات والاتفاقات وتحقيق المطلوب.

وبالضرورة سيضمر لاحقا بالتوالي نمط الغطاء النقدوي الخاص بالعملات؛ لتحل بدلا عنه "العملات الافتراضوية" المعبر عن قيمها حساباتيا فقط في الحسابات البنكانية بما يعادل الأوزان الذهبية؛ وهو ما يبشر بانقراض "العملات الورقية"؛ لأنها تساهم أيضا في نقل الميكروبات والجراثيم والفيروسات بحكم التداول بالأيدي المشكوك في معدلات نظافتها ونقائها.

وفضلا عن ذلك فإن المطلوب عولمويا توحيد نظام تقدير القيمة؛ وبدلا من التشتيت ما بين الدولار والاسترليني والفرنك واليوان والين والريال والجنيه، ستكون هناك عملة متعالية على كل هذه الأشكال المتوالدة ورقيا. ولعل بداية العملة المفترضة الجديدة تجري على نسق ما هو متواجد راهنا مثل: "البيتكوين"، و"الإيثريوم"، و"البيتكوين كاش"، و"الريبل"، و"الليتكوين"، و"كاردانو". والمؤكد أن هذه العملة الافتراضوية الجديدة سيتم اختيار إسم يعبر عن وظيفتها.

نظام العولمة المنبني على "ثنائية المنفصل المتصل" سيفرض على جميع الناس في إطار تطبيقاته؛ أن يرتبط العالم كله أفراداً وجهات ليكون الجميع منفصلا متصلا عبر الشبكات والكاميرات؛ لتصبح الأرض مفردا مترابطا كجزء بمجموع افتراضوي ويحكم الجميع محددات الحقوق والواجبات للجميع؛ على الرغم من أنهم لم يتلامسوا ولم يتنفسوا زفير بعضهم البعض كما يجتمعون في الواقع.

*****

هذا النهج العولموي (العالم صار قرية صغيرة)، يجعل الجميع يمثلون جزرا منفصلة بذاتها في محيط مائي جامع باتساع "الكرة الأرضية/ القرية الكونية المأهولة"؛ والجميع منفصل بذاته متصل بافتراضه. لذلك ينبغي تفكيك عبارة "التباعد الاجتماعي" التي ترد على الألسنة؛ باعتبارها من شروط مواجهة انتشار الأوبئة ومنها "فيروس كورونا".

وبذلك فإن قيام أغلبية الحكومات اضطراراً بتغيير نمط العمل من "المكتبي المباشر" على الطاولات... إلى اللوحاتي المباشر /"الكيبورد" على الشبكات الافتراضوية؛ يعني انتقالها بالإجبار لتحقيق "التباعد الاجتماعوي" المنفصل والمتصل فتتغير مفاهيم العمل التقليدية والمتهالكة إلى ممارسة العمل "التكنتروني" حسب اصطلاح زبجنيو بريجينسكي المفكر الاستراتيجوي ومستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر.

والذي يؤكد ذلك من دون شك هو إصرار "منظمة الصحة العالمية" على التحذير من احتمال رفع القيود على الحركة والتنقل ‏أو غيرها من الإجراءات التي فرضت في عدة بلدان من أجل كبح جماح "فيروس كورونا" المستمر في توسيع رقعة انتشاره؛ فهذا يعني في الوقت نفسه – حرصاً على السلامة العامة - ترسيخ اتباع نموذج العمل الافتراضوي الشباكاوتي الجديد‎.‎ ونتيجة تواصل تجربته حتى يتم إنجاز تحجيم انتشار "كورونا" فإن نموذج العمل الافتراضوي ذلك سيستقر؛ ويرسخ نمطه ويحتل مساحة واسعة من تقاليد بيئة العمل الجديدة.

وهذه البيئة العملوية المستحدثة في نمط الانتاج الكثيف تضمن الاعتماد على الآلات؛ وبتناقص حجم العمالة ستتتوفر للرأسمالوية فوائض كبيرة من النقود/ القيمة التي تدفع كرواتب وإعانات ومعاشات تقاعد. أليس هذا هو ما تواطئ فيه "فيروس كورونا" مع الرأسمالوية العولموية؛ حين تخصص في القضاء على كبار السن والمتقاعدين؟!

*****

لذلك يحمل تثبيت بيئة العمل الافتراضوية الجديدة بسبب "عولموية الفيرسة" ترسيخ تغيرات المفردات الأخرى؛ مثل العملة النقودوية؛ ودلالات مفردات القيمة والثروة؛ التي ستدخل بشره الجشع خزائن الرأسمالوية الدوائية؛ لتتبدى للعقل التفكيكوي تصورات مضمرة في مسألة " حالة "الذهان الفيروسوي" التي أصيب بها العالم راهناً؛ وهكذا فإن "فيروس كورونا" بجانب أنه قاتل محترف سيئ السمعة؛ فوظيفته - على الرغم من الكارثة - تُساهم في تثبيت "تطبيق العولموية" . وفي (الحلقة السادسة) المزيد من القراءة الكاشفة.


مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).